في ذلك المساء، كانت السماء فوق البحر
الأبيض المتوسط مظلمة. تألقت النجوم وكأنها تعتذر عن ذلك، لكن لم يكن هناك أثر
لضوء القمر.
في ظلام القمر الجديد، لا يستطيع الأحبة
رؤية وجوه بعضهم بعضاً، تختبئ الأشياء كلُّها، ولا يُكشف عنها أبداً. كل من الحقيقة
والباطل غامض، ومهجور في الظلام.
أوشكت هذه المعركة الرهيبة على الانتهاء.
ولكن مثلما بنيت هذه المعركة على معارك
سبقتها، فستؤدي أيضاً إلى معارك قادمة. العالم يتغير باستمرار، وبمرور الوقت،
ستنشأ حاجة لمزيد من القتال. المنتصر اليوم سيهزم غداً. والذي كان الأفضل فيما مضى
قد رحل الآن، لقد ضاعوا جميعهم في خضم التاريخ.
لا أحد يعلم ما الذي اعتقده أولئك الناس،
أو ما توصلوا إليه، أو ما ضحوا به، فقد ألقيت هذه الأشياء بكل بساطة في كومة
الألغاز الأبدية.
ربما يأتي يوم ونحصل على أجوبة لكل تلك
الأسئلة، مثل القناع المدفون في أنقاض حضارة ضائعة ومنسية. وحتى ذلك الوقت، ستغفو
هذه الأسرار بهدوء، وتنتظر..
***
عندما ولد ماسيمو فولبي، كانت ثروات عائلته
قد انهارت منذ فترة طويلة.
باع أغلب أفراد عائلته ألقابهم للتجار البرجوازيين مقابل مبالغ ضخمة،
تاركين له عدداً لا يحصى من العمات والأعمام الذين لا يقربونهم بالدم. نشأ وهو يرى
والده يظهر الاحترام لهؤلاء الأقارب في الأماكن العامة ويزدريهم ونقودهم عندما
يكون وحده. كان يجب أن يرث شقيقه الأكبر كل شيء، لكنه غادر فجأة ليصبح طاهياً،
تاركاً ماسيمو ليأخذ دوره عوضاً عنه. كان أنطونيو طاهياً عظيماً، لكن والدهما المحاصر
بالمثل الارستقراطية البالية لم يتحمل رؤية رجل نبيل ينخرط في حرفة حقيرة كالطهو. وعندما
عجز عن إقناعه بالعدول عن ذلك، تبرأ منه بالكامل.
قال أنطونيو بحزن بالغ، وكان قد أتى
لتوديعه: "آسف يا ماسيمو، لقد ألقيت بكل هذا على عاتقيك. اغفر لأبينا، فهو لا
يستطيع أن يتقبل تغيرات الحياة. لن تكون الأمور سهلة عليك، لكن افعل ما بوسعك."
"وأنت ماذا ستفعل؟"
"سأتدرب. لبعض الوقت على الأقل. لا
مستقبل لأرستقراطي سابق في إيطاليا؛ فلن يقبلني الطهاة هنا مهما حاولت. عليَّ أن أسافر
حول العالم. ويوماً ما سأجد بلداً حيث أفتتح مطعماً صغيراً أطهو به الطعام الذي
افتخر به. سيكون عليَّ أن استعمل لقب والدتنا؛ فلا يجوز أن ألطخ اسم فولبي بالعار.
سأستعمل لقب تروساردي."
"من يكترث باللقب الذي ستستعمله؟"
"أبي سيكترث."
"أنت تكرهه لدرجة أنك ستهجره، فلماذا
تقلق بما سيفكر به؟"
قال أنطونيو قلقاً: "هذا يتعلق بك
أنت، فأنت الشخص الذي سيحمل اسم فولبي، والأعباء التي تأتي معه."
قال ماسيمو مبتسماً: "سأتجاهل أي أمر
يحصل، ولكن لن يحصل شيء وأنت تعرف ذلك."
قال أخوه بانزعاج، وكأن كلام ماسيمو أزعجه:
"ماسيمو.. ألديك.. أليس لديك حلم؟"
ردد ساخراً: "حلم؟ كأن تكون سعيدا؟ هل
سيجعل طبخك من الجميع سعداء يا تونيو؟"
لم يسبق له أن نادى بشقيقه بهذا اللقب.
صُدم أنطونيو بذلك، لكنه تمالك نفسه وقال:
"قد يكون من المضحك أن أقول أنا ذلك،
ولكنك حقاً بحاجة للعناية نفسك أولاً، في بعض الأحيان.. أتمنى لو كنت أستطيع
لترتيب الأمور، ولكن.."
"أفهمك."
"لا، لست تفهم، وأبي كذلك، لكنه على
الأقل يرثي لحال العالم...أنت تتجاهلها بكل بساطة."
كان هذا آخر شيء قاله شقيقه، وآخر مرة رآها
فيها. وبعد بضع سنوات، تجاوزت ديونُ عائلته المتصاعدة نقطةَ الانهيار، وباع نفسه
ولقبه لباشوني.
كان والده يشيخ بين عشية وضحاها، وتحول إلى
مدمن حتى النخاع، مدمن على المخدرات التي يصنعها ابنه.
في بعض الأحيان كان يتساءل إذا كانت قوة
باشوني التي استيقظت فيه قد منحت أيضاً لشقيقه قوة مماثلة على الجانب الأخر من العالم.
غالباً ما يحصل هذا مع الأقارب.
وفقاً لمعرفتي به، ستكون قوته مثل قوتي،
لكنها تحتوي على مزيد من «الحلم». لا شك بأنه شيء يحفز وظائف الكائنات الحية، لكن على
نحو «يجعل من الطعام صحياً». يا لها من مفارقة: أحد الأخوين يخلق المزيد من مدمني
المخدرات، والآخر يجعل الناس الأصحاء. لا يهم حقاً.
تبدأ شخصية ماسيمو فولبي وتنتهي وتتلخص في
اللامبالاة. لكن لمرة واحدة في حياته وجد نفسه مستاءً من افتقاده للعواطف.
كان ذلك في الكلية، عندما رأى زميلا أصغر
منه سنا بكثير، اسمه باناكوتا فوغو.
كرهه على الفور.
نادراً ما كان ماسيمو يظهر في الصف، في حين
تظاهر فوغو بأنه طالب نموذجي لا يسيء التصرف أبداً. لكن فولبي كان يعرف الحقيقة.
كان يعرف أن فوغو لا يهمه شيء مما يحيط به
تماماً مثله.
لذا لم يتفاجأ على الإطلاق عندما انفجر فوغو
وتسبب ذلك بطرده. كان يعلم أن ذلك سيحدث، وقد حصل.
لكن ذلك الشعور غير السار بقي. كان غارقاً
في يقينه بأن هذا الفتى الرهيب سيظهر أمامه، وبأنه سيندم على ذلك. وظلت تلك الفكرة
تتردد في رأسه كالنبوءة.
وحان الآن وقت تحققها.
سأل فولبي: "فوغو ليس هنا. أين
هو؟"
كان قد مزق سقف السيارة، ونظر إلى الأسفل.
حيث كانت شيلا-إي مستلقية في الداخل، والتشنجات تهز جسمها.
"آاااه..."
لم تجبه، أو لم تستطع. لم يكن فولبي
متأكدا. أصابتها الصدمة إصابة شديدة.
"هل بالغت باستعمال القوة؟ تستحقين
هذا لمحاولتك الهرب. أعتقد أنك ستكونين رهينة ثمينة."
أمسك بها بقوة، وانتزعها خارج بقايا السيارة.
تمسكت بطرف السيارة فبدت مثل قطة تمسك
عاليا من قفا رقبتها.
"آااه.. فودو تشايلد!"
استجمعت شيلا-إي كل قوتها واستدعت الستاند
الخاص بها. لكم فودو تشايلد بقبضتيه، لكن كل ضربة كانت تنحرف بسلاسة بيدي فولبي
العاريتين. كان جسده معززاً بقوة مانيك ديبرشن فلم تكن قوة وسرعة الستاند الخاص
بها نداً له.
صدَّ فولبي لكمة بقوة، متسبباً بكسر ذراع
فودو تشايلد، فالتوت ذراع شيلا-إي بالمقابل، وقبل أن تحاول أن تركله، تحطمت عظام
ساقيها.
"مرة اخرى!"
نطح فولبي جبهتها، فشج رأسها.
"آآآه!"
دخل الدم في عينيها وأعمى بصرها. ارتمى
رأسها إلى الوراء، ولم ترفعه مرة أخرى.
لم تعد قادرة على الحركة، لقد استخدم أقل
من 20% من قوته الكاملة، وحطمها تماماً.
قال فولبي: "حسنًا"، واستدار، ما
تزال شيلا-إي تتدلى من يده، "يبدو أنكِ قد اعتنيتِ بالوضع هنا يا أنجيلكا، يمكنك
الخروج الآن. وتحققي إن كان أي شخص قادماً من فضلك."
لم يكن هناك رد. لم تظهر أنجليكا نفسها.
"أنجليكا؟"
شعر فولبي باختناق في صدره. ألقى جثة شيلا-إي
الجامدة جانباً، وحدق في الغرفة حيث كانت أنجليكا مختبئة.
كان المكان فارغا.
"أنجليكا ... هل ذهبت لمطاردة فوغو
بمفردك؟ هل تحاولين الانتقام لكوكاكى؟ "
***
"ما هذا؟!" توقف فوغو عن السير.
كان يركض خلف شيلا-إي، نحو أورتيجيا، عندما
لمح بعض الناس يتوجهون نحوه.
حشد من الناس، يتقدمون بسرعة.
ويستهدفونه.
كانت ألوان عيونهم قد تغيرت.. أو بدقة
أكبر: لم يعد لعيونهم ألوان، كانت عيونا فارغة في وجوه بلا تعابير لا تنظر نحو شيء
معين. دفعت أجسادهم إلى الأمام بلا إرادة منهم، كانوا يتدافعون نحو الأمام من دون أن
ينظروا لوجهتهم، يتعثرون بأقدامهم ويسقطون ممدين على الأرض، فيداسون من قبل الذين
من خلفهم، بلا رحمة، بدوا كأنهم يُحشرون من الجحيم، لكن من دون الصرخات التي تتوقع
أن تسمعها.
لم يشعر أولئك الناس بأي شيء من هذا.
لم يبق من عقولهم شيء سوى تعطش للدم يسيطر
عليهم.
ارتجف فوغو.
كان هذا تأثير المخدر الذي يصنعه مانيك
ديبرشن. كان نايت بيرد فلاينغ يحمله للجميع وحسب. جاعلاً من كل الأفكار والشخصيات،
بلا معنى، وتاركاً وراءه حشدا فارغا يستجيب بشكل غريزي لأي محفزات.
كان جورنو جوفانا على حق عندما قرر أنه
خطير للغاية. فكل الطرق التي سيسلكها لن تؤدي إلا إلى أعماق الظلام.
اندفع الحشد نحوه.
"تباً!"
دفعهم فوغو بيأس. لم يستطع الهجوم بطيش، إن
استعمل فيروسه القاتل، فيمكنه بسهولة التخلص من الحشد كلِّه... وسيكون هذا سيئاً.
لدي ست كبسولات فيروس فقط.. إن استعلتهم
هنا، فلن أستطيع هزيمة فولبي أبداً.
خفض رأسه وشقَّ طريقه إلى الأمام. لا يمكنه
التراجع. إذا استدار للحظة فسيهجم عليه الحشد كجيش من الزومبي، لا خيار لديه سوى
أن يجتازهم.
خرمشوه بأظافرهم، خدش خده رجل أصلع في
منتصف العمر.
ركله فوغو جانبا، ثم شعر بسائل يسيل على فخذه.
كانت دماء، ليست دماء الرجل الذي ركله، بل دمه.
كان الخدش على خده أعمق مما تصور.
ولكن.. إنه لا يؤلمني!
هذا يعني أن نايت بيرد فلاينغ بدأ بالسيطرة
عليه. كانت قوة الستاند تنمو. مما يعني...
يجب أن تكون قريبة من هنا.
في الوقت الذي مرت فيه هذه الخاطرة في عقله،
ضربه شخص من الجانب.
لم يحاول الإمساك به، ضربه وانسحب وحسب.
استدار فوغو لينظر، ووجد العالم ينزلق من جانبه.
فقد توازنه، ولم تعد ساقاه قادرتين على
حمله.
كان جانبه يضايقه. فنظر إلى الأسفل..
كانت سكين قد انحشرت بعمق في جانبه.
حاول الوقوف، لكن السكين قد اخترقت العضلات
ووترا، فلم يستطع الحركة. كان الظل الصغير الذي طعنه يهرب.
صاح فوغو: "آااه.. بيربل هيز!"
مجبراً الستاند الخاص به على الظهور.
لا يمكنه تركها تهرب. إذا لم يقضِ عليها
هنا والآن ، فستوقع المزيد من الضحايا، لن تقتل سكان أورتيجا وحسب، بل كل صقلية.
الآن وقد توقف، بدأ الحشد يتراكم حوله،
أمسكوا به، خدشوه ، عضوه.
ولكنه تركهم.
ظلَّ ساكنا. ركز الحشد كله عليه، محاولين
الوصول له. لكن الفتاة التي طعنته كانت تتحرك في الاتجاه الآخر. واثقة من أنها
فازت. فجعلت من نفسها قابلة للكشف بسهولة.
"جررررااااااا!"
شقت زمجرة بيربل هيز سكون الليل. لم يستطع
فوغو النظر ولا التأكد من أن هجومه أصاب الهدف. كان كل ما يستطيع فعله الاستلقاء تحت
كومة الناس المغسولي الأدمغة، والانتظار، وأخيرا شعر بألم فظيع يمزق جانبه. لسعه
الألم بشدة لدرجة أنه لم يستطع منع نفسه من الصراخ. لكن هذا الألم، هذا الإحساس بتمزق
أحشائه، كسكب رصاص مغلي في بطنه... يعني شيئا واحدا فقط.
إن المخدر يتلاشى!
لقد اختفى تأثير ستاند العدو. سقط الحشد من
حوله على الأرض، واحدا تلو الآخر. متحررين من التعويذة، سقطوا فاقدي الوعي. لم يكن
واثقاً من أنهم سيستعيدون صوابهم من جديد.
"آاااه.."
ترنح فوغو محاولا النهوض على قديه في حين
ما تزال السكين مغروسة بعمق فيه. لم يستطع المخاطرة بسحبها. إذا فعل، فسوف يتدفق
الدم، وقد ينزف حتى الموت. كان عليه المضي قدما. عليه إيجاد ماسيمو فولبي .. وإنهاء
هذا.
***
صرخ فولبي: "أنجليكا ؟!"
كان الغوغاء من حوله ينهارون، لا شك بأن
خطباً ما قد أصابها.
التفت قلقاً نحو الجسر حيث بر صقلية الرئيسي.
كانت أضواء الشوارع على الجسر تومض وتنطفئ، فقد تضررت شبكة الكهرباء في هذه
الفوضى. ومض ضوء واحد لفترة طويلة بما يكفي لإلقاء نظرة على ظل شاحب، ظل بالكاد يمكن
تمييزه عن الظلام.
فقط أنجليكا أتاناسيو يمكنها أن تكون بهذا
الشحوب.
همست: "أنا هنا يا ماسيمو"، رآها
تخطو نحوه، متعثرة بضوء الشارع.
حدقت فيه بعينين متسعتين.
"أنجليكا! هل أنت بخير؟ شكراً..."
خطا خطوة نحوها.
أشارت نحوه قائلة: "هكذا! أنت تبدو
أفضل بكثير هكذا."
"هه ؟"
"عندما تبتسم هكذا.. تكون
ظريفاً جداً. ظريف جدا جدا."
ابتسمت له.
ثم سقطت على الأرض ، كدمية قد قُطعت
خيوطها، تدمر جسدها بفعل فيروس بيربل هيز القاتل، نُزعت الحياة منها مثلما تُفجر
إبرة بالونا.
انتفضت شيلا-إي.
ظنت بأنها صمعت صوت انفجار؛ تسرب غاز يشتعل
تحت الأرض.. لكن لا، هذا الصوت صادر من حنجرة بشرية.
كان صوت صرخة فولبي.
زمجرة أشبه بنيران تحرق الهواء من حوله. هدر
مثل عاصفة ثلجية تجمد كل شيء في الأفق.
"...........آاااااااااااااااااا!"
مثل الأبواق التي تبشر بوصول القضاة
النازلين من السماء في آخر يوم على الأرض، تردد صدى الصوت من جميع الاتجاهات.
ثم توقف.
وحل الصمت.
وقف فولبي ساكنا تماماً، ثم انحنى إلى
اليسار، فاليمين، ثم استدار ببطء نحوها.
أمال رأسه إلى الأمام، وركز عينيه على شيلا
إي.
هاتان عينان خاليتان من العاطفة، إنهما
أكثر برودة من عينين زجاجيتين في وجه دمية قديمة.
كانتا عينين خاليتين من الرحمة، لم يبق شيء
في قلبه.
وفي طرفة عين، كان فولبي يلوح فوقها.
ركلها في بطنها، لكن تلك كانت أكثر بكثير
من ركلة.
كانت الركلة أقرب إلى بإطلاق.
فقد ركل جسدها في الهواء كأن ساقيه مزودتان
بمحركات نفاثة.
طارت في الهواء، ثم هبطت ... حيث كان ينتظر.
التقط شيلا-إي من الهواء قبل قليل أن تضرب
الأرض. ثم أرجحها وألقى بها على الأرض.
كانا في المقاصة.
وهي مساحة فارغة من الأرض، محاطة بسياج من
الطرق التي تعلوها، ومجموعة من أشجار النخيل على جانب واحد.
كان هذا أقدم مكان في أورتيجا، أطلال معبد
حجري قديم. اعتقد الناس فيما مضى بأن هذه الأطلال مكرسة لأرتميس، ولكن نظريات أحدث
وجدت أنه كان ضريح لإله لشمس.
معبد أبولو.
عرفه الجميع بهذا الاسم.
"آاااه..."
حاولت شيلا إي بيأس أن تجبر جسدها على
التحرك، أن تنهض، لكن قدميها خانتاها.
همس بصوت بارد: "ناديه."
"هه..؟"
"نادي فوغو، استدعيه إلى هنا، اصرخي،
وترجيه بأن يأتي لإنقاذك."
"آااااه..."
"لا تحاولي قتالي، إن
مانيك ديبرشن يسيطر عليك بالكامل، لم تعد لديك إرادة حرة."
اخترقت أطراف أصابع فولبي حلقها.
جرحتها أصابعه، لكنها لم تنزف، بدلا من ذلك،
أخذت إصاباتها حول أصابعه تشفى. لوى أصابعه ببطء، ووجدت نفسها تنادي بصوت عالٍ.
كان صوتها عالياً على نحو صادم، مثل صوت مغنيي الأوبرا. أدار أصابعه كما يحول مقبض
الصوت، وعلا صوتها أكثر، كأنها آلة يتحكم بها.
كانت تصرخ بصوت عالٍ لدرجة أنها مزقت حنجرتها،
تدفقت الدماء من فمها. لكن تلك الإصابات أيضا شفت نفسها. وصارت تصرخ بصوت أعلى.
شعرت بنبض قلبها يتسارع. لم يستطع جسدها تحمل
الإجهاد. كان الدم يتجمع في حنجرتها ورئتيها، ولم تعد تشعر بالألم من أطرافها
المكسورة.
هـ.. هذا سيء.. صوف أموت..
تسبب نقص
الدم بظهور بقع ساطعة أمام عينيها، رفرفت في السماء مثل اليراعات.
وداعا يا كلارا. أعلم أنك تراقبينني من السماء،
لكنني أسقط مباشرة إلى الجحيم. لن أراك مرة أخرى..
قبل أن تفكر أكثر من ذلك، انتهت الصرخة، كأن
شخصا ضغط على زر التوقف.
تراجعت يد فولبي.
لم يعد ينظر إلى شيلا-إي، لقد فقد كل اهتمام
فيها. كانت عيناه مركزتين في مكان آخر.
كان يركز كل كراهيته.
وقف ظل عند مدخل معبد أبولو.
كانت رجلا الظل ترتجفان. وكانت هناك سكين مغروزة
في جانبه، بالكاد يستطيع الوقوف. لا شك أنه قد أجبر نفسه ليأتي إلى هنا على الرغم
من إصابته.
قال باناكوتا فوغو بهدوء: "فولبي ...
أنا هو من تبحث عنه"، كان كمن يتحدث إلى زميل لم يره منذ سنوات.
***
كانت شيلا-إي تنظر إليه متفاجئة. لم تستطع
فهم سبب وجوده في هذا المكان، بجانبها، كان فولبي واقفا، ثم اندفع نحوه، لينال انتقامه.
رأى فوغو كل ذلك، لكن عقله كان مستغرقا في
أمر آخر تماماً.
فهمت الان. كل شيء أصبح منطقياً فجأة. الشيء الذي
كان ضايقه طوال ذلك الوقت أصبح فجأة واضحا تماما. هذا هو السبب. صحيح يا نارانشا؟
لم يفهم قط لماذا قال نارانشا ما قاله، ولماذا
فعل ما فعله. لماذا خان باشوني من أجل فتاة لم تعجبه حتى، وكان بالكاد يعرفها؟ ما
الذي دفعه للادعاء بكل ثقة أنها كانت هو، وبأن جروحها كانت جروحه؟ لم يفهم فوغو
أبدا.
لكنني أفهم الآن.
نظر إلى العدو المندفع نحوه، وإلى حيث
استلقت شيلا-إي. كان واقفاً على رجلين من المفترض ألا تكونا قادرتين على حمله، ويحدق
بعينين لا تستطيعان التركيز.
قالت: "لا يمكنني فعل ذلك." لقد
قلت ذلك أنا نفسي من قبل.
كان يعرف ذلك الشعور، شعور بنفاد الصبر وبالإحباط
وبحزن فارغ يأكل جسده.
أعرف ذلك الشعور. وأعرف أنها مثلي.
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيه. كان فيها
شيء من الإحباط، لقد قضى الوقت كله يزدري ذكاء نارانشا، في حين كان واثقا من ذكائه،
وها هو قد استغرق ستة أشهر كاملة لفهم ما حزره نارانشا في لحظات.
شيلا-إي.. هي أنا. غضبها هو غضبي!
كاد العدو يصل إليه، لا وقت للتردد، يبلغ
مدى ستاند فوغو خمسة أمتار، في اللحظة التي يدخل فيها العدو نطاق الستاند، فإن
أحدهما لن يبقى حياً.
وقف فوغو ساكناً، وترك فولبي يأتي إليه.
سبعة أمتار. ستة.. خمسة.
قفز بيربل هيز إلى الأمام، انطلق الستاند
الهائج نحو الخصم.
لم تصدق شيلا-إي ما يحصل. كانت على ثقة من
أنها ضحت بنفسها لإنقاذه.
إذن لماذا هو هنا؟!
أيظن بأنه يستطيع الفوز؟ صحيح أن لمسة
واحدة من ذلك الفيروس ستقتل فولبي، ولكن إذا أُطلق الفيروس بالقرب من فوغو فسيقتله
هو أيضاً.
كان عليه أن يصيب فولبي وهو ما يزال بعيدا
بما يكفي لكيلا يصاب هو الآخر. إذا فشل في تسديد الضربة في ذلك النطاق الضيق
ستدمره سرعة فولبي الفائقة. حتى إذا قرر بأن يموت ويأخذ فولبي معه قد يتفادى فولبي
الضربة، وعندها ينتهي أمره. سيدمره الفيروس بينما يقف فولبي من مسافة آمنة يشاهده
هازئاً وهو يموت ككلب.
ماذا علي أن أفعل؟
رأت فوغو يستدعي بيربل هيز، كان فولبي في
النطاق. إذا فوَّت الفرصة فسينتهي أمره.. لكن في تلك اللحظة، رأت شيلا-إي شيئاً لا
يعقل.
ما.. ماذا..؟!
في السماء المظلمة بلا قمر، رأت نوراً ينعكس
منه على الأرض.
كان طائراً صغيراً يرفرف، إنه نايت بيرد
فلاينغ.
لكن الفتاة التي كانت تتحكم فيه ماتت! لقد
قضى عليها الفيروس! لا يمكن أن تكون قد نجت!
هل أبقاها مانيك ديبرشن الخاص بفولبي حية
بطريقة ما؟ على الرغم من أن عظامها كلها قد ذابت؟ هل أوقف الفيروس عندما كانت ميتة
بنسبة 90% ؟
لا يعقل هذا. لم يبق منها شيء سوى هذا
الستاند ذاتي الحركة، هذا الطائر الصغير..
لماذا فعل ذلك؟ لم تستطع التفكير سوى بسبب
واحد.
أوه لا.. هذا الطائر لا يعمل بكامل قوته،
ولكن مع هذا المسافة الحرجة، فإن أدنى خطأ في الحكم..
كان فوغو وفولبي قريبين من بعضهما بعضا.
قفز بيربل هيز إلى الأمام، وصوب باتجاه
العدو..
أو هذا ما كان يجب أن يكون.
لكنه قفز نحو الاتجاه الخاطئ. ضربت قبضته الهواء
الفارغ فقط.
عبر فولبي الأمتار الخمسة الفاصلة بينه
وبين فوغو. وصار في مواجهته تماماً.
ثم.. في اللحظة التي ظنت فيها أن فوغو هالك
لا محال، لاحظت أمراً.
..هه؟
أمر غريب، غير منطقي بالمرة.
ما.. ماذا؟ قبضته.. قبضة بيربل هيز..
كانت الكبسولات المملوءة بالفيروس القاتل التي
يُفترض بها أن تكون مثبتة على مفاصلة..
الكبسولات.. لقد اختفت!
زمجر فولبي: "انتهى كل شيء يا
فوغووووو!" كان واثقاً من فوزه. كان على بعد بضعة إنشات. كل ما عليه فعله هو ضربه
بقبضته، وسيشطر فوغو إلى شطرين، كان قريباً جداً ليرى البياض في عيني فوغو.
رأى فوغو ينظر إليه مباشرة.
رمش.
لم يسبق له أن رأى أحدا على هذه الحال. هاتان
لم تكونا عيني زميله الصغير المزاجي والمغرور والبكَّاء. ولم تكونا عيني صعلوك
مستعد لفعل أي شيء يؤمر به.
كانتا عينين تجسدان العزم.
كانتا عيني رجل اتخذ قراره، وصار على
استعداد للتضحية بكل شيء في سبيله.
سمع صوت فرقعة من أمامه مباشرة، في اللحظة
التي كانت قبضته متوجهة نحو فوغو، انفجر شيء داخل فم ذلك الأخير.
أوه تباً..
حتى مع منعكساته القوية، لم يستطع أن يتصرف
في الوقت المناسب. تناثرت الدماء من فم فوغو، وغطت جسد فولبي.
كان فيوغو قد عضَّ كبسولة.
قفز فولبي متراجعاً، ولكن بعد فوات الأوان.
لا يمكنه إيقافه. كانت قوة وحشية. تهجم
كانفجار.
فتح فولبي فمه، لكن لم تخرج أية كلمات، فقد
ثُقبت رئتاه وأخذ الهواء يتسرب. خطا خطوة، ثم انهارت ساقاه وتقلصت عضلاته. نظر إلى
الأعلى، لكنه لم يستطع رؤية شيء، كانت عيناه تذوبان من محجريهما. حاول أن يندم على
كل شيء، لكنه أخفق، لقد تلف دماغه.
في لحظة، انتهت حياة ماسيمو فولبي. غادر مثل
ورقة جافة حملتها الرياح.
***
لم تصدق شيلا إي عينيها.
لقد ذاب جسم فولبي وتبخر.
لكن فوغو كان ما يزال هناك، انهار على
الأرض. على الرغم من أنه هو من كسر الكبسولة.
سعل بعنف، وسال الدم على ذقنه.
..لكنه لم يمت.
همست شيلا إي: "كيف..؟!"
قال أحدهم: "الستاند يعكس شخصية
المالك."
صدر الصوت من خلفها، التفتت نحو الأعلى، ورأت
مورولو. أكمل قائلاً: "عندما يكون هناك تحول في النفس، يتغير الستاند أيضا."
تساءلت كيف نجا. عندما رآها تنظر إليه، هز
رأسه قائلا:
"لا تطلبي مني الذهاب لمساعدته الآن. لقد
صار فيروس فوغو أقوى من ذي قبل، عندما عض الكبسولة هاجمت الفيروسات التي انتشرت في
فمه بعضها بعضا قبل أن تهاجمه. لا أريد الاقتراب من شيء مثل هذا، ألا أقول الحقيقة؟"
انحنى ونظر إليها.
"أنت قوية حقاً. لديك بعض العظام
المكسورة، لكن لا إصابات داخلية، ستعيشين. فهمت الآن سبب ثقة ميستا بقدرتك على التصرف.
"
بدا مورولو مختلفا عن ذي قبل. واثقا.
هل كان...؟
لكنها كانت مرهقة جدا لتفكر. أغلقت شيلا-إي
عينيها، وتنهدت بعمق.
..كان يقف بجانبه مباشرة.
كان يحدق فيه، التساند الذي يخشاه الجميع، الجسم
المسنن، العينان المحتقنتان بالدم، الفم الملتوي الذي تصطك أسنانه على الدوام.
بيربل هيز.
أناه الأخرى، انعكاس عقله، باناكوتا فوجو
آخر.
كان يحدق به.
وللمرة الأولى، حدق فوغو بالمقابل. أكانت
عيناه هكذا دائماً؟ شعر بأن عينيه كانتا تبدوان أكثر وحدة من قبل.
أم كانت تلك عاطفة قد نسيها في مكان ما على
طول الطريق؟
مثل الجراثيم التي تملأ عالمنا، موجودة
بدون مساعدة، رافضة كل محاولات التخلص منها.
شيء لا تريده، لكنك واثق لسبب ما من أنك لن
تتحرر منه أبدا. ظِلٌّ من المشاعر المتضاربة.
نظر إليه، وبادله النظر.
عندما لن يعود قادرا على تصديق أي شيء، ولن
يجد مكانا يذهب إليه، سيكون دائما بجانبه.
لم يقل أحد منهم شيئا.
حلَّق طائر صغير فوقهم.
طار نحو السماء بلا قمر، واختفى.
أُنجزت المهمة.
اسم الستاند: بيربل هيز المشوِّه
اسم المتسخدم: باناكوتا فوغو
القوة التدميرية: A - السرعة: B - المدى: C←E
الاستمرارية: E - الدقة: E ←
C - التطور: B ←
؟
القدرة: ينشر فيروسا قاتلا. تطور على نحو أشد فتكا بحيث صارت الخلايا الفيروسية الآن تهاجم
الخلايا الأخرى من نفس الفايروس. كلما كان هجوم فوغو أقوى قلَّ الضرر الذي سيلحق
بخصمه، لأن الفيروس يقضي على نفسه. يجب على فوغو الآن أن يلكم الهدف مباشرة ليقتله.
طبيعته محيرة إلى حد ما. فعلى الرغم من أن فوغو نفسه سيموت إذا أصابه الفيروس، يبدو
أن الستاند نفسه محصن. وهذا سيظل لغزا.
2 comments
يعطيك العافية
أخيرا! يعطيك العافية