الفصل الثامن والأخير: الجندي العاشق

 



من ستة أشهر، مات رجل عُرف باسم لوكا ذي العين الدامعة. وصدرت أوامر من الأعلى إلى بوتشالاتي ليحقق في ذلك. كان لوكا عضواً في باشوني، وقد ضرب نفسه فيما يبدو حتى الموت بمجرفته. كانت وفاته حادثاَ عَرَضيّا ناجما عن الآثار الجانبية لإدمان المخدرات، ولكن التحقيق كان مطلوباً.. للاحتياط وحسب.

وبدت هذه مهمة لا تستحق وقت بوتشالاتي، فقد كان على وشك أن يصبح زعيماً فرعياً. عرض عليه فوغو أن يقوم بالمهمة عوضاً عنه، ولكن بوتشالاتي أخذ الأوامر على محمل الجد، وقرر القيام بالتحقيق بنفسه.

تذكر فوغو كل ذلك بعد عدة أيام، لأن القصة ظلَّت بلا نهاية. لم يسمع فوغو أي شيء جديد عنها، لم يكن حتى متأكدا من أن بوتشالاتي قد أجرى أيَّ تحقيق. وبعد أيام قليلة قتلَ زعيمهم الفرعي، بولبو، نفسه في زنزانته في السجن. وتمَّت ترقية بوتشالاتي ليحلَّ محله، وكُلِّفوا بمهمَّة حراسة تريش. ونُحيَّت جانباً تفاصيل تافهة كالتحقيق حول مقتل لوكا.

ولكن عند التفكير في ذلك..

ذهب بوتشالاتي للتحقيق، وعاد يتحدَّث عن فتى لم يذكره من قبل، قائلاً إنَّه قد يصير واحداً منهم قريبا. لم يستطع فوغو والآخرون إخفاء دهشتهم.

احتجَّ نارانشا قائلاً: "ماذا بحق الـ..؟ من هذا الرجل؟"

تجاهله بوتشالاتي وقال: "مجرد شخص اعتقدت أنه يستحق الثقة. إذا كان لديكم مشكلة في ذلك، انضموا إلى فريق شخص آخر."

أثار ذلك غيط الجميع.

زمجر أباكيو: "مهلا! لم يكن هناك داع لذلك. نحن نثق بك. لكننا لا نعرف شيئاً عن فتى لم نلتقه قطّ."

لم يغيِّر ذلك من موقف بوتشالاتي.

"إذا كنتم تثقون بي، فعليكم أن تثقوا به."

"ما رأيك بأن نحقق في أمره قبل انضمامه الفريق؟"

"ليس ضرورياً."

زمجر ميستا أيضاً: "إذن أنت حقاً مصمم على هذا؟"

احتجوا جميعهم، لكن بوتشالاتي كان واضحاً جداً.

"هذا ما سيحصل. ولن تغيِّروا رأيي."

وهكذا أُجبروا على الخضوع. كان ذلك السلوك غريباَ جداً وغير معتاد من بوتشالاتي.

عندما أتذكر ذلك الآن، أدركُ أن أقدارنا كانت قد حُسِمتْ في ذلك اليوم.

في اللحظة التي قابله فيها بوتشالاتي، كان قد اتخذ قراره بالفعل، مثلما فعل فوغو عندما التقى بوتشالاتي لأول مرة.

هذا غريب.

كان بوتشالاتي متأخراً، نوعاً ما، عنهم. فقد تغيَّرتْ حياةُ كلِّ أفراد الفريق عندما قابلوه، ولكن بوتشالاتي لم تكن لديه نقطة تحول كهذه.. حتى التقى ذلك الفتى.

لقد وثقوا به، آمنوا به. كانوا على ثقة من أنه قادر على إنجاز أي شيء.

أما هو فلم يعرف أبداً ما كان عليه ذلك الشعور.

لم يعرف أبداً شعور الإعجاب بأحدهم، وإيداعِهُ أحلامَهُ ومستقبله.

***

مر أسبوع منذ المعركة في صقلية.

تردد صدى سعال فوغو في المطعم المضاء بإضاءة خافتة.

كان الوقت مبكراً جداً، قبل افتتاح المكان بوقت طويل، لذا لم يكن هناك زبائن. اختفى الرجل الذي أرشده إلى مقعده، وتركه وحده.

انسكبت أشعة الشمس من خلال الشقوق في الستائر، لكن لم تكن هناك أضواء أخرى.

كان المذياع مفتوحاً على برنامج اسمه "في عمق الموسيقى الكلاسيكية"، وكانوا يذيعون أغنية Ti Voglio Bene Assaje الجميلة التي لحنَّها Donizetti.

سعل مرة أخرى.

كان في مطعم، لكنه لم يستطع تناول أي شيء.

توفِّي الفيروس في لحظة، لكنه انتشر داخل فمه وأتلفه بشكل سيئ، وتقشَّرت الطبقة الداخلية من جهازه التنفسي، وكانت في حال يُرثى لها. فلم يعد قادراً على البلع، وهو يعيش معتمداً على الحقن الوريدية من الأسبوع الماضي. كما لم تتم إزالة القُطَبِ في إصابته في جانبه.

حتى وهو في هذه الحالة، ارتأت باشوني استدعاءه. سيتم التعامل معه أخيراً. لقد نفَّذ الأوامر بنجاح على الأقل، لكن كيف كانت رؤيتهم للنتائج؟ لم يستطع أن يعرف. لم يخبروه من سيقابل. ربما لن يأتي أحد أصلاً، وسيستلم رسالة وحسب.

حاول قمع سعاله، إلا أنه لم ينجح بذلك، كان سعالا مُدمى، حاول إخراج منديله ليمسحه، لكن أصابعه ارتجفت كثيرا لدرجة أنه سقط منه.

تباً...

انحنى ليلتقطه.

ثم... سمع قرقعة خفيفة من وراء صوت المذياع. كان صوت شوكة تلامس طبقاً.

التفت ليرى، كان زبون آخر قد وصل من دون أن يلاحظه، أمامه طبق وقد غرس شوكته في الطعام.

كان فتى بشعر أشقر مجعد، ثبَّت فوق ثيابه دبوساً على شكل خنفساء.

كان فوغو يعرف الفتى، ليس كثيراً، فقد عمل معه لثلاثة أيام فقط.

لكن هذا الفتى لم يكن فتى تقابله وتنساه. كانت تحيط به هالة هي مزيج من النور والظلام تترك انطباعاً قوياً.

نظر الفتى إلى فوغو المتجمد في منتصف الطريق إلى منديله.

وتذمر قائلاً: "هذا لا يُصدَّق، الطاه هنا فنَّان، ولكنه يُصرِّ لسبب ما على أن يُقدِّم لي لحم الدجاج والبط. لم أكن يوماً من محبي لحم الدواجن. لكنه يستمر بالقول بأنني أضيِّع نصف عمري إن لم آكل هذا اللحم كثير العصارة. على الرغم من أن سلطة الأخطبوط هنا لذيذة لدرجة لا تُقاوم."

دفع الطعام حول صحنه باستعمال الشوكة.

"لم أطلب طبق الدجاج والبطاطس المحمرة هذا، لكنه أصر على تقديمه على أية حال. وإذا لم آكله فسيكون غاضباً."

"...."

"ألا تعتقد أن رائحتها جيدة؟ لطالما أحببتَ الدجاج."

رمشَ فوغو.

قبل بضع ثوان كانت رائحة الدم في حنجرته قد طغت على جميع الروائح الأخرى، لكن بإمكانه الآن أن يشمَّ الرائحة الغنية للثوم والبصل المقليين بزيت الزيتون.

وضع يده على فمه. لقد اختفى تماماً الألمُ الذي كان يُعذِّبه من لحظات. حتى الأسنان التي فقدها عادت لمكانها من جديد.

هـ.. هذا...

كان المنديل الذي سقط عند قدميه قد رُفع ووضع على شكل لفافة، التقطه وفتحه، ووجد فيه خيوطاً بنية اللون.

كانت القُطَب المغروزة في جانبه.

اختفت كل الأوجاع والآلام في جسده. لقد شُفي بالكامل.

إنه.. الستاند الخاص به.

التحكُّم بالحياة.

كانت هذه هي قوة غولدين إكسبرينس الخاصة بالفتى.

لم تكن لديه أدنى عمَّا فعله ومتى. كانت الهوة بين قوتيهما هائلة لدرجة أنهما بالكاد موجودتان في نفس العالم.

نظر إلى الأعلى متفاجئاً، بينما رفع الفتى الشوكة إلى فمه، ومضغ قليلاً، ثم عبس.

"أعتقد أن طعمها جيد، لكنني لا أفضِّلُها. أعتقد أن ذلك بسبب تجارب سيئة من أيام  الطفولة المبكرة، لم تكن والدتي تقدِّم أيَّ شيء على العشاء سوى الياكيتوري. أتعرف ما هو الياكيتوري؟ إنَّه طعام ياباني، لحم مطبوخ على أسياخ، مصمَّم ليكون وجبة خفيفة تؤكل مع البيرة. يضعون اللحم على عصي صغيرة حادة، وهذا يجعلها غير آمنة للأطفال الصغار، أليس كذلك؟ إنها ذكريات مؤلمة، يقولون إنها تفيد في النمو، لكن هذا صعب التصديق. ألا يمكنك إظهار بعض التعاطف؟"

"...."

"وأنا حقاً لا أحب الطعام الدهني، إنه يُشعرني بأنني آكل إسفنجة مُغمَّسة في الزيت."

طوال شكواه، كان الفتى يجرف طعامه بعيداً.

بدأ فوغو بالكلام: "جو..." ثم توقف. لم يكن متأكداً بِمَ يناديه.. بالرئيس؟

قال الفتى: "أوه، صحيح.. أسدِ لي معروفاً ونادني جوجو. الرئيس كان لقب ديافولو، ونحن نحاول تغيير الأشياء في الأعلى هنا. جوجو يتدفق من اللسان بلطف، أولا تظن ذلك؟"

لكن ذلك بدا أكثر.. ألفة من مناداته باسمه. لم يكن فوغو متأكداً ماذا يفعل.

جورنو جوفانا.

لم يستطع فهم هذا الفتى.

قال جورنو: "إذن يا فوغو، لا شكَّ بأن لديك الكثير من الأسئلة." أنزل الشوكة، ومسح فمه بمنديل. وأكمل: "والإجابة عنها هو عملي. لذا اسأل ما شئت."

تلعثم فوغو: "حسناً... إمم.."

تغيرت الأغنية على الراديو. كانت أغنية دونيزيتي قد انتهت، وشدا صوت جديد. صوت أنثوي.

فتح فوغو فمه مشدوهاً، كان يعرف ذلك الصوت. كان الصوت الذي قال له بوقاحة: "ليس الأمر وكأنني أريد أن أراك عارياً أو أي شيء." عندما قابل صاحبته لأول مرة.

كانت أغنية الجندي العاشق، وهي أغنية تروي خواطر جندي شاب في الحرب العالمية الأولى تجاه محبوبته في الوطن. كانت أغنية بائسة قليلاً، ولكنها مبهجة على نحو غريب، مع شيء من القوة فيها، تغنيها شابة بصوت جميل ونقي.

عندما انتهت الأغنية، بدأ المذيع مقابلته معها.

" مستمعينا الأعزاء، اسمحوا لي أن أقدم لكم تريش أونا، نجمتنا الجديدة الواعدة."

"تحية للجميع."

"تريش، لقد قمتِ بجولة ناجحة، وهل صحيح ما سمعناه من أنك ستصدرين ألبوما قريباً؟"

"لم أكن لأصل لهذا من دون معجبيَّ."

"هل صحيح أنك كنت تغنِّين على المسرح طوال حياتك برفقة والدتكِ؟"

"نعم، لقد توفِّيت مؤخرًا، وكان ذلك صعباً عليَّ، لكنني أتحسَّن تدريجياً."

"سمعت أنكِ اختفيتِ لفترة من الوقت؟ لا شكَّ بأن مديرة أعمال أُصيبت بالذعر."

"لا أعرف كيف أعتذر عن ذلك. لقد ذهبتُ كنت في رحلة لرؤية سردينيا وروما. تأملت المواقع هناك وحسب."

"وهل ساعدك ذلك على تجاوز حزنك؟"

"أجل، وبمساعدة بعض الأصدقاء الجيدين، تمكنت من التعافي."

"شكراً لله على نعمة الأصدقاء."

"لولاهم كنت سأضيع. أنا مدينة لهم بدين لا يمكنني سداده أبداً."

"وآمل أن يدعمكِ مستمعونا الأعزَّاء بالمثل. التالي..."

أخذت أغنية أخرى تصدح، لكن فوغو لم يسمع شيئاً منها.

بينما كان يقف هناك مذهولًا، أمسك جورنو إبريق الماء، وملأ كوبه.

"في البندقية، قلت إننا لا نعرف حتى نوع الموسيقى التي تحبُّها. الآن صرت تعرف."

رفع الكأس نحو شفتيه ورشف منها رشفة ثم أعادها الطاولة.

"لم نساعدها في ذلك. لم نعد نفعل. لقد حصلت على عقد التسجيل بجهدها."

استدار فوغو نحوه، لكنه أبقى رأسه منخفضاً، كي لا يلتقي نظره بجورنو.

"إممـ ..."

"نعم؟"

"لماذا أنا؟"

"...."

"كانت هذه مهمة خطرة. شيلا-إي ومورولو مرشحان ممكنان لها، لكن ما سبب إرسالي؟"، تردد فوغو ثم أكمل: "أنا خائن. لا يمكن الوثوق بي."

رشف جورنو رشفة أخرى ثم قال: "هذه أسوأ صفة فيك."

تجمَّد فوغو.

أومأ جورنو قائلاً: "أنت لا تصدِّق ما قلتَه آنفاً ولم تصدِّقه للحظة حتى. أنت لا تعتقد بأنك خنتَ أحداً. في الحقيقة، أنت مؤمن يقيناً بأن بوتشالاتي خانك، أليس كذلك؟"

"...."

"أنت تتخيل أننا نراك خائناً، على الرغم من أنك لا تصدِّق ذلك."

"...."

"وقد قمتَ بالأمر نفسه في ذلك اليوم أيضاً، كل ما قلته كان مجرد انعكاس لما يعتبره فِكرُ الغوغاءِ المنطقَ السليم. لم يعكس أيٌّ من الكلام عواطفك أنت. لقد ردَّدتَ الصورة العامة كما يكرِّر الببغاء الكلام.." كان جورنو ينظر إليه مباشرة. وكانت نظرته مؤلمة. "في أعماقك، أنت تحتقر هذا "المنطق السليم" وإلا فلماذا ضربت ذلك الأستاذ بقاموس؟ في أعماق قلبك، يثير غيظك ألا يؤمن الآخرون بما تؤمن به. وهذا هو سبب غضبك المفاجئ بسهولة من الآخرين، هذه هي طبيعتك."

"...."

دون أن يدرك ذلك، كان فوغو يرتجف كما لو أنه تعرَّض للسعة من الجليد.

"لقد قاتلنا عدواً يُدعى نوتوريزوس بيغ . كان هذا بعد أن تركت الفريق، ولهذا لم تعرف، ولكنه كان فريداً من نوعه."

صالب جورنو ذراعيه، وقطب حاجبيه مفكراً.

"لقد كان عدواً لم تتفعَّل قوته الحقيقية إلا بعد موت مستعمل الستاند. كان مدعَّماً بالكراهية القوية التي شعر بها صاحبه لحظة الموت، ولم يعد بحاجة للإنسان ليفكر ويوجهه. وبما أن المستخدم مات، فلم يعد قتل الستاند ممكناً، وكانت الهجمات كلُّها عديمة الفائدة. بعد أن قاتلناه، قلت لنفسي: لقد رأيتُ هذا من قبل."

"...."

"بالضبط. بيربل هيز. الستاند الخاص بك أيضاً يتغذَّى بالكراهية. ولكن قد يقتلك الفيروس أنت أيضاً، على نحو خارج عن إرادتك، لقد كنتَ محظوظاً جداً لأنك لم تمت في المرة الأولى التي استعملته فيها، لقد مات كثيرون على هذا النحو."

"...."

"قلتَ إنَّه لم يكن لدي سبب لاختيارك. ولكن العكس هو الصحيح؛ كنتَ مشكلتي، والباقي كان ثانوياً، كانت الأولوية للتعامل معك."

"...."

"كان من السهل قتلك. لكن ماذا لو قتلناك ولم يمت بيربل هيز؟ ملذا لو أُطلق عنان الستاند الخاص بك على العالم؟ ليست لدينا طريقة لقتله. سينتهي العالم."

كانت فكرة مرعبة، أصغى فوغو مذهولاً. وظلَّ جورنو يتحدث بنبرة هادئة:

"شخص واحد فقط بإمكانه اتخاذ إجراء حيال ذلك، وهو أنت يا باناكوتا فوغو؛ كنت الشخص الوحيد الذي يمكنه مواجهة ذلك التهديد، الشخص الوحيد الذي يستطيع تغيير الستاند الخاص بك هو أنت."

"...."

"هل كان بإمكانك التغلب على خوفك وكراهيتك تجاه الفيروس الخاص بك؟ لقد راهنتُ بكل شيء على ذلك. لم أجبرك على فعل شيء. كان عليك أن تفعل ذلك بنفسك، اتخذتَ قرارك بنفسك. الأمر الوحيد الذي كان يقلقني هو هل كان بإمكانك إنجاز ذلك. لكني لم أقلق كثيراً حياله."

قال فوغو وهو ينظر للأعلى: "... لِمَ لا؟"

قال جورنو: "لم أكن أعرفك جيداً. لذا كان الحكم عليك صعباً عليَّ. لكن بوتشالاتي وثق بك. وأنا وثقتُ ببوتشالاتي. وهكذا لم يكن هناك سبب يدعو للقلق."

كان جورنو ينظر في عينيه مباشرة. لم يستطع فوغو النظر بعيدا.

"أنا.. أنا.."

"الأمر الآخر الذي كنت قلقاً بشأنه هو شيلا-إي ، لا شلك أنك لاحظت من خلال عملكَ معها.. إنها تميل إلى معاقبة نفسها. وتختار وضع نفسها في خطر، في محاولة منها للتضحية  بنفسها لأسباب نبيلة. ولكن ما هكذا يكون التصميم الحقيقي. إنها بحاجة إلى الشجاعة للتراجع. كنت آمل أن تتعلم من خلال العمل مع رجل حريص مثلك. سوف تظهر نتائج ذلك فيما بعد."

"الشجاعة..."

تذكَّر أن كوكاكى استعمل تلك الكلمة.

 

"معرفتك ضئيلة جداً يا فوغو. وكل ما تعتقد أنك تعرفه هو معرفة ضحلة وسطحية وحسب. أنت لا تعرف شيئاً عن الشجاعة، وعن القوة التي يجدها الرجال عندما يُنحُّون غرورهم ليعيشوا. الرجال من دون شجاعة مثل البراغيث، مصيرها أن تموت صفعاً عندما تحاول امتصاص دماء البشر."

كان الرجل على حق. لم يعرف أي شيء. وعندما رأى تلك النظرة على وجه فوغو، أومأ جورنو قائلاً:

"هذا هدف يتشاركه البشر كلُّهم: معرفة ما الذي تعنيه الشجاعة بالنسبة لك.. إن دورنا كبشر هو البحث عن تلك الإجابة طوال حياتنا. إنه مثل الباب. ما لم تفتحه فلن تجد طريقك. وأنت الآن تقف أمام هذا الباب. لقد وصلتَ إليه أخيراً. والباقي متروك لك."

"أنا.."

"يوجد شيء أريد أن أعيده إليك. انظر إلى الطاولة."

أشار جورنو، ونظر فوغو لأسفل، ورأى مظروفاً، فتحه، كانت هناك صورة بالداخل.

حبس انفاسه. كانت الصورة التي التقطوها أمام قارب بوتشالاتي، صورة للفريق بأكمله واقفاً أشعة الشمس. تعبير غامض مُرتسِم على وجه فوغو، بوتشالاتي مُحرَجٌ قليلاً، ميستا ونارانشا يبتسمان من الأذن إلى الأذن، وأباكيو رزين. كانوا جميعهم مليئين بالأمل في ذلك اليوم.



"...."

عند تأمله الصورة، وجد فوغو نفسه يرتجف مرة أخرى. ارتخت قبضته، فأسقط الصورة، واختار جورنو تلك الحظة للكلام.

"ماذا تقول يا باناكوتا فوغو؟ هل ستعيرني مواهبك مرة أخرى؟ لدي حلم، وأحتاج أصدقاءَ لمساعدتي في هذا الحلم."

مدَّ جورنو يده.

بدت تلك اليد رمزا للأمل. كأن ذنوبه كلَّها ستُغفر إذا تناولها.

"أنا.."

كان جسم فوغو كلَّه يرتجف.

كان هذا اختياره الثالث. في المرة الأولى، اختار الانضمام. في الثانية، غادر. والآن..

الآن...

كان صامتاً. جلس بصمت للحظة طويلة، خافضاً رأسه. ثم تساقطت قطرات على حضنه.

كان يبكي.

انهمرت الدموع من عينيه.

لم يستطع الذهاب.

لم يستطع المضي قدما.

لم يستطع الخطو خطوة واحدة.

انتحب.

سأل جورنو بلطف: "ما الخطب؟"

لم يستطع فوغو رفع رأسه.

"أنا.. فكرت للتو.. لماذا أنا هنا؟ لِمَ لستُ بوتشالاتي؟ لماذا أنا الذي أقسم بالولاء لك بدلاً منه؟"

كان ذلك ليكون أسهل بكثير.

إذا كان بوتشالاتي يقسم بالولاء، وكان واقفاً خلفه، يراقب، لكان ذلك بسيطاً جداً.

كان متأكداً من أن كل واحد منهم سيكون لديه ما يقوله. بل كان بإمكانه سماعهم:

"هه؟ ما الذي يحدث؟! جورنو أصغر منك! مهلاً، بوتشالاتي أكبر مني لذلك.. آه تباً! أياً يكن!"

"لن أقول إنني راضٍ تماماً عن هذا، ولكن إذا كان بوتشالاتي راضياً، فسوف أتبعه. وسأوسع ضرباً أي شخص يقول غير ذلك."

"اتركوني أفعل هذا الآن! لن أكون الرابع في الترتيب!"

ثم كانوا سيضحكون جميعاً. كان بإمكان فوغو رؤيتهم تقريباً. بدا وجودهم واقعياً أكثر من وجوده هو.

ولكن لم يكن أي منهم هنا. كان هو فقط. ولم يستطع تقبل ذلك.

لم يستطع أن يوقف دموعه. لماذا؟ لماذا كان يبكي فجأة بعد كل هذا الوقت؟ إذا كان سيبكي الآن، فلماذا لم يذهب معهم في ذلك الوقت؟ كان هذا أبعد من الندم. ما فوَّته كان كبيراً جداً، ولن يسترجعه أبداً."

كان جورنو واقفا أمامه.

سقط ظله على فوغو. نظر فوغو للأعلى.

نظر إليه جورنو في عينه مباشرة.

قال: "نصف خطوة. إذا لم تتمكن من اتخاذ خطوة إلى الأمام، فسأخطو نصف الطريق لك."

"...."

"كل شيء يتوقف على قرارك، ولكن إذا كان الحزن يثقل قدميك، فشاركني إياه."

"...."

شعر فوغو بأنه قد فهم للتو، ولأول مرة، لماذا قرَّر بوتشالاتي أن يودع حياته في يدي هذا الفتى. لم يشعر بهذا برأسه، بل بقلبه.

"جو.."

برجلين مرتجفتين، بل منهارتين تقريباً، انحنى إلى الأمام. سقط على ركبة واحدة، لكنه أمسك بيد جورنو.

تحدث جورنو بهدوء: "كل ما يمكننا فعله لمن فقدناه هو التقدَّم إلى الأمام. هذا هو واجبنا، ليس تدمير كل ما لا يعجبنا كالملوك الضعفاء، بل المضي نحو الأمام ولو تألَّمنا، معتمدين على كلِّ ما نستطيع، حتى على ضوء نجم ضعيف."

توقف فوغو عن الارتجاف. أمال وجهه بالقرب من اليد التي يتشبث بها، ووضع شفتيه عليها، ثم قال:

"طالما أعيش، سأخدم حلمك بجسدي وقلبي وروحي. هذا هو أملي، وهذا هو مستقبلي."

كان وجهه واضحاً. كان قسمه صادقاً.

"كُلِّي لك. قائدنا جوجو.."

وراء أشعة الشمس التي بدت من خلال الستائر، قُرعت الأجراس، لتعلن بداية يوم جديد.

النهاية.

1 comments:

Author
avatar

صراحة رواية جميلة و تجاوب على اسئلة كثيرة فالانمي و اتمنى يصير لها اوفا او فلم و شكرا على الترجمة

Reply