كانت تريش أونا تتمتع بإطلالة كاملة على
المدينة والبحر من التل الصغير حيث كانت تقف، هبَّ نسيم مُنعِش.
"...."
كانت واقفة أمام قبر. كان شاهد القبر صغيراً
إلى حد ما، ومزخرفاً على نحو محترَم ومتواضع. كان هناك قبر آخر بجانبه، لكنه بدا بسيطاً
وعادياً مقارنة بالآخر.
كان اسم المتوفَّى منقوشاً على كلِّ من
الشاهدَين.
أحدهما كان برونو بوتشالاتي، في حين حمل الآخر
اسم والده. كان قبر الأب بسيطاً، لأن ابنه لم يكن لديه الكثير من المال عندما تم
بناؤه. كان الابن يقول إنه سيبني له قبراً لائقاً يوماً ما، لكنه مات هو نفسه قبل
أن يتمكن من ذلك. وعند دفنه، اقترح الناس إعادة بناء قبر والده مرة أخرى، ولكن
صديقا من أصدقاء والده في الصيد أكد قائلاً:
"كلا، لم يكن ليريد ذلك قطعاً، لا شك
أنه يودُّ أن ينام بسلام في القبر الذي بناه ابنه."
لذلك تُرك كما هو.
قد يجعل الجو الهادئ في ذلك المكان زوَّاره
يشعرون بالسعادة.. لكنهم لن يستطيعوا تصوُّر أن الشخص الذي يستريح هنا، برونو بوتشالاتي،
كان زعيمًا سابقاً في المنظمة السرية "باشوني"، وأنه كان شخصاً رئيسياً
في الشبكة المظلمة التي أرستْ الأساس للمنظمة التي تنمو الآن بوتيرة سريعة. لقد
كان شخصاً مهماً جداً وما إلى هنالك.
على عكس حياته الدموية، التي كاد كثيرون
يقتلونه فيها، وكان هو الآخر يَقتلُ في بعض الأحيان، كان قبره بسيطاً، دون أي تفاصيل
لا معنى لها من البهرجة أو الكبرياء.
"...."
كانت المرة الأولى التي تأتي بها تريش إلى
هذا القبر. لم تحضر مراسم الدفن. لقد منعها الفتى ذو الشعر الأشقر المُجعَّد من
ذلك، ، قائلًا إنه من الأفضل ألا تذهب.
ومع ذلك، فقد جاءتْ أخيراً في هذا اليوم.
أحضرتْ زهرة بيضاء واحدة، وضعتها أمام شاهد
القبر. لقد واجهت صعوبة في الاختيار، وقرَّرت أخيراً جلب زهرة خزامى.
تساءلتُ ماذا أحضر، ثم فكَّرت.. إن تسريحة
شعرك تشبه الخزامى، وهكذا... إنها نكتة سخيفة، لكن هذا ما شعرتُ به.. أجل.
ضحكتْ ضحكة صغيرة.
لقد أتت اليوم إلى هنا صدفةً، فقد توقفت في
المدينة للقيام ببعض الأشياء، كانت تستأنف مسيرتها الغنائية بعد أن توقفت بسبب
وفاة والدتها، وكانت في طريقها إلى المنزل بعد إجراء مقابلة في محطة إذاعة
المدينة. كان من المفترض أن تعود إلى الشركة على الفور، لكنها أخبرت مديرة أعمالها
بأنها لا تستطيع المجيء، واختلست الوقت لزيارة القبر.
تمتمت: "الأمرُ أصعبُ ممَّا توقعتُ يا
بوتشالاتي.. أنا مشغولة بكثير من الأشياء الآن. الحال مختلفة الآن عما كانت عليه،
عندما كنتم تحرسونني يا رفاق وتقولون لي كل ما يجب أن أفعل." ثم تنهَّدتْ.
لقد مرت الأيام التي كانت أشبه بعاصفة من
القلق والخوف والشجاعة منذ مدة طويلة. لدرجة أنها تشعر في الوقت الحاضر بأنه كان حلماً.
لكنه لم يكن حلماً، وكان بوتشالاتي يستريح حقاً تحت شاهد قبر.
هذا صحيح. إنه حقاً...
وقفت صامتة وقد أغلقت عينيها ورفعت رأسها، إلى
أن قال صوت خجول من خلفها:
"إممـ.. هل أنتِ.. ربما.. تعرفين
برونو؟"
عندما استدارت نحو الصوت، رأت تريش امرأة أنيقة
تقف بمفردها. كان وجهها جميلاً وخالياً من التجاعيد، ما تزال سيدة شابَّة، لكن التعبير
المُرتسِم على وجهها كان كئيباً إلى حد ما.
"...."
شهقتْ تريش، لقد فهمت فور رؤيتها، كان
التشابه غريباً، لم يكن هناك شك في أنها ذات صلة.
"هل أنتِ.. والدة بوتشالاتي؟"
أومأت المرأة برأسها وهي تنحني.
"أجل. ولكن بالكاد أتيحت لي الفرصة
لرؤيته مؤخراً.. عندما تلقيت الأخبار، كانت الجنازة قد أقيمت. هل حضرتها؟"
"لا، أنا.."
هزَّت تريش رأسها. لم يهمَّها إذا اتُهمت
بأنها فتاة بلا قلب. لكن والدته كانت تنظر إليها.
قالت: ".. هل تعرفين كيف مات؟ لقد كنتِ
«هناك» في «ذلك الوقت»، أليس كذلك؟"
كان افتراضها صحيحاً. صمتت تريش حائرة
باختيار الكلمات.
تذكَّرت ما حصل في «ذلك الوقت».
***
"هـ..هيه.. بوتشالاتي؟"
خاطبه ميستا بصوت مُرتجِف، لكن الرجل الراقد
على الرصيف لم يجب، على الرغم من أن جفنيه كانا مفتوحين، إلا أن عينيه لم تعد تبصران
شيئاً.
كان الواضح أن بوتشالاتي ميْت.
كانوا في المدرج الروماني. المكان الذي احتدمت
فيه معركتهم الأخيرة، وحيث استطاعوا أخيراً هزيمة العدو ديافولو بعد معركة شرسة.
ما يزال بإمكانهم سماع بعض الضجيج بالقرب
منهم، فقد كانت المدينة ما تزال تتعافى من الفوضى التي تسببت بها المعركة.
هذه المنطقة فقط بدت وكأنها معزولة عن الاضطراب،
وحلَّ بها صمت غريب..
"مـ.. ماذا.. بحق الـ.. بوتشالاتي، هل
تعبث معنا؟ هيا، هذا يكفي!"
هزَّ ميستا جسده، لكن لم يكن هناك رد.
"آه.."
فوجئت تريش برؤيته على تلك الحال. لم تصدق
ذلك أيضاً. كان من المفترض أن يظل بوتشالاتي آمناً، فلماذا مات هنا على ما يبدو؟
وهل يبدو هكذا من مات لتوه؟
في اللحظة التي فكرَّت فيها بذلك، تردَّد
صوت تحطُّم فظيع بجوارها. صوت انهيار العظام في الجسم الذي كان ميستا يهزُّه. انسحب
على نحو غريزي، ولكن حتى إذا كُسرت العظامُ، فلن يُفصح الجسد عن سبب ذلك.
وأخيرًا ، فتح الشخص الثالث بينهم، وهو الفتى
الذي يمسك السلحفاة، فمه قائلاً:
"هذا يكفي يا ميستا. لقد مات منذ وقت
طويل. لن يعود."
تردَّد صوته الهادئ بقوة من حولهم.
"لن يعود..؟" استدار ميستا نحو
الفتى الذي أومأ قائلاً:
"يجب أن تكون قد أدركت ذلك أيضاً، لقد
توفِّي بوتشالاتي في الأصل عندما واجهنا ديافولو لأول مرة. كان يتحرَّك بجثة من
وقتها حتى الآن. ربما كان ذلك بسبب هذه القوة، ربما تسبَّب عزمه بحدوث معجزة. لا
أستطيع أن أحدِّد على وجه اليقين، ولكن، لقد حارب بوتشالاتي وهو مدرك بأنه لا
يستطيع إنقاذ نفسه، كان الأوان قد فات. ولم يعد بإمكانه العودة."
كان كلامه منطقياً، وعبارة عن حقائق، بحيث
لم يترك مجالاً للشك.
"..!"
تحرَّك ميستا في طرفة عين. ركل الأرض، واضعاً
مسافة بينهما، قفز إلى موقع مناسب، ورفع بندقيته باتجاه الهدف.
منتصف جبهة الفتى.
"...."
حتى مع فوهة مسدس موجَّهة نحوه، بدا الفتى
هادئاً تماماً. وقف في مكانه وحسب، لم يترك السلحفاة التي كان يحملها حتى.
سأل ميستا الفتى بصوت مُرتجِف: "ما
هذا بحق الجحيم؟"
مرة أخرى، قال بهدوء:
"لا شك أنك أدركت ذلك الآن. ليس هناك
ما يدعو للتساؤل."
صاح ميستا: "لا تعبث معي!" اشرح!
أعطني تفسيراً لعيناً آخر!"
لم يرد الصبي، ولكنه، وببساطة حدَّق في ميستا
بصمت.
اشتعلت هالة شديدة بينهما. كان الجو حارا كاللهب
وباردا كالماء في الوقت ذاته.
"هـ..هه..؟"
لم تتحرك تريش طوال ذلك الصراع.
فكرت: "فليوقفهما أحد." وحوَّلت
بصرها باتجاه بوتشالاتي، ولكن بطبيعة الحال، تلك الجثة لا يمكنها أن تقول أي شيء
بعد الآن.
نادته في رأسها: "ماذا تفعل؟ أنت من
أحضرنا إلى هذا المكان، فلِمَ لا تقول أي شيء وقد صرنا جميعنا هنا؟" أرادت أن
تصرخ بذلك.
لكن جسده ظلَّ ساكنا بينما استمر ميستا في
توجيه فوهة مسدسه إلى الفتى، مستعداً لقتله.
"أتقصد أنك كنت تعرف كل شيء طوال الوقت؟
وكنت تشجِّع بوتشالاتي، وتتركه يخون الرئيس..."
رد الصبي على صوت ميستا المرتجف بتصريح
واضح جداً:
"هذا صحيح."
ازداد عمق التجاعيد في جبهة ميستا.
"لا شك بأنك أدركتَ أنني كنت أوجهه،
ولكن هذا ما أراده بوتشالاتي واختاره بنفسه. كان يأمل أن يدفعه أحدهم دفعة، وأنا كنت
أساعده فقط. أنت تعلم أن بوتشالاتي لم يكن يسمح للآخرين بإجباره على التراجع عن
قناعاته."
لم يتلعثم الفتى في كلامه على الإطلاق. في
حين كان جسد ميستا كلُّه يرتجف، ولكن بحكم العادة التي المغروسة عميقاً فيه، لم
يتحرك مسدسه بوصة واحدة. لا يهم مهما ارتجف، فهو قناص مخيف لن يغفل عن هدفه.
صاح ميستا: "أنت.. من تظن نفسك بحق
الجحيم؟!"
قال الفتى وهو ينظر مباشرة في عيني الآخر:
"أنا، جورنو جوفانا، لدي حلم."
كانت هذه العبارة شعاره، لقد سمع ميستا هذه
الكلمات في كثير من الأحيان خلال معاركهم العنيفة.
قال: "الآن، لديك طريقان"، كأنه
يحذره. ثم سأل فجأة: "ميستا، أنت تكره الرقم أربعة، أليس كذلك؟"
"بلى؟ ما باله؟"
أكمل الفتى شارحاً لميستا العابس في حيرة:
"إذا أطلقت النار عليَّ الآن، فهذا
سيجعلني الرابع. هل ستكون بخير؟"
تشنَّج طرف فم ميستا. لقد فهم ما يقوله
الصبي.
زملائهم في الفريق، أولئك الذين ضُحَّي بهم.
ليوني أباكيو
نارانشا غارشيا
برونو بوتشالاتي.
لقد مات ثلاثة منهم. إذا قُتل جورنو هنا ،
فسيكون "التضحية الرابعة."
"هذا.. هذا.."
غرق ميستا في عرق بارد، وأخذت أسنانه تصطك.
أجبر ميستا نفسه على الصراخ: "هذه..
محض مبالغة!"
أومأ الفتى.
"أنت محق تماماً. هذا هاجسك يا ميستا،
لكنه لا يهمني، أنت وحدك تعاني معه، واتخاذ القرار عائد إليك."
"آه.."
"الآن، عليك اختيار أحد طريقين: الأول
هو القضاء على الشخص الدنيء الذي تسبب بوفاة زملائك في الفريق، وتسوية كل شيء حتى
الآن، ولن يكون هذا بلا معنى، هذا لأنك، ستحرِّر نفسك من صعوبة العيش مع لعنة
«الرابع» التي تقيدك.
"...."
"أما الطريق الآخر فهو أن تستمر
بالعيش مع هذا الهاجس، وهاجسك هذا مهم، فطريقتك هذه في التفكير تعني أنك لن تضغط
على الزناد في هذه اللحظة. إذا اخترت الحياة التي ستستمر فيها بتجنب «الرابع» من
الآن فصاعداً، فلن أتردد في اختيار «الرابع» عوضاً عنك. هذه إحدى «مسؤولياتي».
"ماذا.."
بلع ميستا ريقه مصدراً صوتاً غريباً.
"ما الذي.. ستفعله الآن؟"
"أنت تعرف جواب ذلك أيضاً"
للحظة بدا ميستا غاضباً من كلمات الفتى، أعاد
تصويب مسدسه ، وسحب الزناد.
دوى طلق ناري.
..!
أغلقت تريش عينيها بشكل غريزي وغطت أذنيها،
وظلت راكعة في مكانها.
تلاشى صدى الطلقات النارية في المساحة
الشاسعة للمدرج، وحلَّ صمت قاتل.
فتحت تريش عينيها متوترة، ورأت ميستا، كان
الدخان يتصاعد من فوهة مسدسه. تتبعت الاتجاه الذي كان يصوِّب نحوه، كان دخان
البارود يتصاعد أيضاً باتجاه الهدف.
كانت هناك ثقوب في حجارة الرصيف. وأمامه،
كان الفتى واقفاً يحمل السلحفاة. كانت هناك ثلاثة ثقوب، ابتسم الفتى ابتسامة
هادئة.
"كما توقعَّت. لم تطلق أربع طلقات،
أليس كذلك؟"
"همف.. لا تستخف بيّ! هاجسي حقيقة
عالمية. ولا يستطيع أحد تغيير ذلك، لذا، إذا تخليت عن كونك عضواً في فريق بوتشالاتي،
إذا تخليت عن كونك «الرابع» لو للحظة، فسوف أضع رصاصة مباشرة في دماغك، فهمت؟"
لف ميستا مسدسه في يده ثم وضعه جانباً.
حمل الفتى السلحفاة تحت ذراعه، وسار ببطء ثم
ركع إلى جانب جثة بوتشالاتي، مدَّ يده ليمسح برفق الوجه الشاحب، ثم خاطب الجثة
بصوت خافت:
"بوتشالاتي، عندما التقينا لأول مرة
ولعقت خدي، كشفتَ كذبتي، لكن لن يكون هناك المزيد من الأكاذيب، أقسم على روحك."
كان ميستا واقفاً بجانبه. وفي تلك اللحظة، وسط
عالم مضطرب وفاسد، لمع ضوء ساطع: «باشوني» ولدت من جديد.
"...."
رفع الفتى رأسه لينظر إلى تريش، التي كان تراقب
المشهد بوجه خالٍ من أدنى تعبير، وصرَّح قائلاً:
"هنا تنتهي رحلتكِ، تريش أونا."
***
حتى الآن، ما تزال تتذكر بوضوح، كانت الذكرى
منحوتة في ذهنها.
صورة بوتشالاتي بلا حراك على الرصيف في ذلك
الوقت.
لكنها لم تكن الكيفية التي مات بها، فقد
اكتشفوا أنه قد مات بالفعل من فترة طويلة. بالنسبة لها، كان بوتشالاتي منقذاً
للحياة، ومُمثِلا للشجاعة التي لا تعرِّف التردُّد أمام المصير، ضوء ساطع بقوة في
الظلام.
لكنه ميْت الآن.
طوال الطريق اعتمدت عليه، ثم قررت دعمه
واللحاق به، إلا أن الحقيقة كانت أنه رحل منذ البداية، ففي اللحظة التي انقذها، كان
قد وُسِم بميسم الرحلة إلى العالم الآخر.
تساءلت كيف ستفسر ذلك.
تساءلت كيف ستعبِّر عن ذلك، وكيف ستتمكن من
إبلاغ والدته عن مصير ابنها.
"أنا.."
كان تريش ما تزال في حيرة من الكلمات،
عندما تنهدت أم بوتشالاتي وقالت:
"هل كان.. مستاءً منِّي يا ترى.."
على الرغم من أنه بدا سؤالاً، إلا أن وقعه
كان حزيناً كمناجاة.
"عندما حصل الطلاق، اختار البقاء مع
والده وليس أنا. بصراحة، ما زلت أشعر بالمرارة من ذلك حتى الآن، لماذا كان عليه
دائماً اختيار الطريق الصعب.. من المذنب هنا؟ هل أنا شخص سيء؟"
أرخت رأسها، واهتز كتفاها. وعلى الرغم من
أن تريش كان متحجِّرة تقريباً بسبب المشاعر المؤلمة التي تلتهب في قلبها، إلا نها
مشت نحوها ووضعت يدها على ظهرها برفق.
"هو.. لم يكن مستاءً من أحد، أنا
متأكدة من ذلك".
"لكن.."
"واجهتُ بعض المشاكل الخطرة مع والدي
الحقيقي، وقد ساعدني.. وقتها قلت له إنني قلقة لأنني لست واثقة من أنني سأستطيع أن
أحب والدي. فقال لي على الفور ومن دون تردد: "لا يوجد ابن ووالدان يقلقون من
شيء كهذا".. أنا متأكدة من أنه لم يظن السوء بوالديه على الإطلاق."
تحدثت تريش بنبرة واثقة لدرجة أنها تفاجأت
من نفسها. لماذا قالت ذلك بغطرسة؟ أليست تلك الفتاة التي يعتبرها الآخرون «ابنة
مدللة وأنانية»؟ كان بوتشالاتي والآخرون الذين قاموا بحمايتها غريبين، هل كان فوغو
على حق بطريقة ما عندما تخلَّى عنها؟ بالتأكيد، فموت أياكيو ونارانشا كان بسببها.
حتى لو كانت هكذا، كيف يمكنها أن تؤكد مثل هذا
الشيء بفخر لأم ثكلى؟
أنا…
كانت تريش تخوض صراعاً عنيفاً في أعماقها.
رفعت والدة بوتشالاتي رأسها، وقالت وقد ارتسم تعبير غريب على وجهها:
"هناك شيء.. مألوف فيك.."
"هه؟"
"عندما أخبرته أننا ووالده سوف نتطلق،
كانت عيناه.. تبدوان هكذا في ذلك الوقت.. لماذا يا ترى؟"
لم يكن لدى تريش، بطبيعة الحال، طريقة
لمعرفة كيف كانت الأمور تبدو في ذلك الوقت، لكن، لماذا شعرت بأنها تستطيع أن تتخيل
بوتشالاتي الطفل في عقلها؟
"هذا فقط.."
هزَّت تريش رأسها بهدوء وقال:
"أعتقد ان هذا بسبب أنني كنت أتصرف
مثله. نحن لسنا متشابهين، لكنني كنت أفكر بأنني أريد أن أكون مثله."
"هل.. تظنين أن برونو كان سعيداً؟"
عندما سألت والدته هذا، لم يكن على تريش أن
تشعر بحيرة حول ما تظنه حيال ابنها.
"أنا متأكدة من أنه لم يندم. أعتقد
أنه مات وهو يمرَّر لأصدقائه أمنياته الأخيرة. لكن أنا.. للأسف لم أكن جزءاً من تلك
الدائرة." وابتسمت بكآبة.
كان ذلك صحيحاً. لم يندم بوتشالاتي، ولم
يستطع ميستا والآخرون النظر إلى الوراء، ولكن قلب تريش فقط ظلَّ متروكاً في مكان
ما في ذلك المدرج، متدلياً في الهواء.
"أنت…"
حدَّقت والدة بوتشالاتي طويلاً في تريش.
"ما رأيك في برونو؟"
ألقت سؤالها فجأة، لكن تريش لم تتردَّد.
أجابت على الفور: "لقد كان شخصاً فظيعاً،
على الرغم من أنه أنقذني من اليأس وأراد منِّي أن احتفظ بإرادتي بالحياة، إلا أنه في
النهاية، تخلَّى عني"، قالت كل ذلك وهي تبتسم بمرارة.
ظلَّت والدته صامتة للحظة ، ثم ابتسمت
ابتسامة مشابهة.
"هل بقي كذلك؟ لقد كان هكذا بالنسبة
إليَّ أيضاً عندما كان طفلاً. كان ذكياً حقاً، وبدا أن باستطاعته فعل أي شيء، حتى إنه
جعلني أحلم.. لكن عندما اختار والده وليس والدته، انتهى به الأمر برميي بعيداُ. كم
كان طفلاً فظيعاً.."
"أليس كذلك.."
ابتسمتا الابتسامة نفسها، وارتجفتا بنفس
الطريقة، واغرورقت عيناهما بالدموع نفسها.
جورنو، قد يكون لديك حلم. قد يكون بإمكانك
تحويل أي شيء، حتى الحزن، إلى قوة. لكن أنا -نحن- لا نستطيع العيش على هذا
النحو...
رفعت تريش رأسها نحو السماء. ورأت الغيوم
تمرُّ بسرعة كبيرة.
"هذا لا يبدو جيداً.."
بمجرد أن همست تريش بذلك، هبت عاصفة من
الرياح آخذة زهرة الخزامى البيضاء التي وضعتها أمام شاهد القبر، لتهبط في مكان ما على
العشب الطري.
النهاية
ثرثرة المترجمة المتعبة: لم أتصور يوماً
بأنني سأصل إلى هنا، ولكن نعم! لقد انتهيت من ترجمة هذه الرواية أخيراً! XD استغرق ذلك مني أكثر من عام، مررت بلحظات
ضعف كدت أتوقف فيها وأعتذر من القرَّاء، بإمكانكم تصور ما يمر به المرء خلال عام
ونصف، لقد مررت بظروف صحية وعائلية ودراسية و.. حتى قائمة الموسيقا التي كنت استمع لها وأنا أترجم تغيرت
عدة مرات (-_-) أرجو ألا تكون لغتي قد تغيرت كثيراً في كل فصل نظراً إلى تباعد
فترات نشر الفصول. عموماً، أنا راضية عن الترجمة، لا شيء مثالي بالتأكيد، ولكني
راضية عن الجهد الذي بذلته فيها. وأيضاً تعلَّمتُ درسي: هذه أول وآخر مرة أترجم
بها رواية خفيفة! شكراً لكل من دعمني طوال مدة النشر، وحتى لمن جاء بعد ذلك، شكراً
لقراءتك حتى الآن.
2 comments
شكراً جزيلاً لكِ لترجمتك أختي الفاضلة، أقدر أخيرا استمتع بالرواية بعد رمضان. :)
يعطيك العافية. مبارك انهاء المشروع 3>